خطبة
قصة قصيرة بقلم: عثمان الماحي.
استيقظَ مفزوعاً على صراخ أمه:
- انهض يا ادريس، فلنا موعدٌ مع أهل عروسك المستقبلية. لقد أخبرتُ أمها أننا سنزورهم اليوم إن شاء الله.
أجابها من أسفل الغطاء متثائباً وبصوت رخيم:
-
على أي بنت اهتدى اختيارك يا أماه هذه المرة؟
صمتت قليلاً. كانت وقتها تحضر له مائدة الإفطار المكون من
حليب البقر الطري الذي حلبته عند بزوغ الفجر، وحريرة البلبولة بالشعير. أجابته عن
السؤال بعد شيء من السكون:
- بنت عبد الرحمان أتعرفها؟
- من منهن يا أمي أسماء أم غيثة؟
- غيثة يا بني.
أجابها:
-
إنها بنت بكر، هل ترضى أن تتزوج برجل على ذمته ثلاث زوجات أخريات؟
دعيني أنام، حتى إن قبلت ستقبل كرهاً وأنا لا أريد أن تساق لي زوجة كأنها دابة
يحكم عليها العرف .
-
اطمئن يا بني، لقد فاتحت البنت في هذا الموضوع قبل أن
أفاتح أهلها، فوجدتها تميل إليك وتبجلك. قالت لي: "لا خير في زوج لم يكن خيره
لوالديه."
وثب الابن راميا الخمول مع غطائه. تابعت:
- حفظك المولى عز وجل. البس البذلة البيضاء مع القميص
الرمادي، أما ربطة العنق فانس أمرها، لقد أصبحت موضة قديمة. أريد منك يا
بني أن تشتري لنا صندوق سكر ولترين من الحليب نأخده معنا عسى أن تبيض أيامكم وأن تكون
حلوة كالسكر.
- سمعاً وطاعة مولاتي.
خرج يدندن. كان السرور يعلو محياه وهو يغني:
-
قُولُو لَلا َغيثة مُولاتي جود بوصالك عْلَى العشيق يا أم الغيث....
في طريقه إلى الدكان، رمقه عثمان فلحق به. قال مستغرباً:
-
أراك لا تقدر على إخفاء فرحك يا ادريس. هاه بشرني، هل أتاك
الدعم من وزارة الثقافة لنشر روايتك -هبة- أم ماذا؟
-
عن أي دعم تتحدث يا عثمان؟ ذاك الأمر نسيناه، أما ما أنا
فيه الآن، فقرة عيني أمي الحبيبة من ورائه؟
رد عليه عثمان:
-
زوجة رابعة في
الطريق إذاً، اللهم اجعلها قدم السعد عليك يا أخي أو أعرفها؟
طبعه الفضول. الفضول نفسه الذي أتى به من آخر الزقاق إلى
الدكان. هل سيفرجها في وجهه أم يتركه حائراً بين بنات القرية؟ بعد لحظات من الصمت،
نطق ادريس:
-
إنها غيثة بنت عمك عبد الرحمان.
رد عليه عثمان:
-
يا لك من سعيد حظ بأمك.
أجابه:
-
رضى الوالدين يا
عثمان مقرون برضى الله عزوجل. هيا احمل معي صندوق السكر. عيب عليك أن
تترك العريس يجهد نفسه. كفاني حمل الحليب.
-
أمرك مطاع يا سلطان زمانه، سيأتي يومي وتخدمني.
-
ذلك لا شك فيه.
عاد لدندنته ورفيقه يؤازره بصوت شجي ليملآ الأرجاء غناءً غير عابئين بالمارة.
قالت الأم وهي تهز الدار بصوتها:
-
جهزي المائدة يا أسماء واتركي لأختك مجالاً كي تجهز
نفسها، فإن الخُطاب على وشك الدخول.
دخلت غيثة غرفتها وأغلقت الباب بإحكام. تقدمت بخطى ثابتة
نحو المرآة محدثة نفسها:
-
كيف سأقتحم
المجلس؟ وماذا ألبس؟ هل سأبدو جميلة في عيني ادريس؟ أَهو منصاع لأمر أمه؟ ويحي كيف سيمر
يومي هذا؟ أرجو من الله أن يمدني بعزم وثبات. أوف. أخرجي أيتها الأفكار المشوشة من
ذهني.
جلست على المقعد أمام المرآة واضعةً يدها على خدها. فجأة
قامت، ووجدت نفسها تصلي ركعتين لله، فما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره
انقطع وانفصل.
-
هاه الآن سأنكبّ على اختيار الفستان. ما أجمل الأصالة ! أين أنت يا قفطاني الأبيض المرصع بالحجارة اللامعة، وزركشات الصقلي في أطرافه
تزيده بهاء؟
بحثت في دولابها. قالت مخاطبة القفطان ونفسها:
-
إني أدخرك لأحلى المناسبات ولن أجد خيراً منك ليومي هذا.
أعلم أن ادريس يحب بالبساطة. كم مرة سمعت عثمان ابن عمي يردد بأن صديقه يقول: "البساطة
سر الجمال الكوني". وبناء عليه، لن أضع مساحيق التجميل. سأضع فقظ بعض الكحل
في عيني، والسواك لشفتي. وماذا عن تصفيفة الشعر؟ لم أهتدي بعد لتصفيفة تلائم
القفطان، الأفضل أن أحجبه بالفولارة. ستكون ملائمة.
تزينت العروس بالبساطة، وحسن الخليقة والخلق. نادت على أمها
أنْ تعالي انظري كيف أبدو؟ ما إن رأتها الأم
حتى باركتها وقالت:
- وردةٌ ربي يحميك من كل شر وسوء، ويكمل عليك بالخير والهناء.
قرعُ الباب هز كيان غيثة. اختلطت عليها الأحاسيس. ماذا أفعل؟
أهاه حسنا سأصلي ركعتين أخرايتين. توجهت صوب القبلة في تضرع وخشوع راجية من الله
الثبات وحسن التدبير، والتوكل. فلما فرغت من صلاتها، فتحت الباب لشق كي تسمع ما
يدور في بهو البيت، فإذا بأمها تنادي عليها كي تأتي لهم بالشاي والحلوى.
خرجت بنت الخدر في استحياء نحو المطبخ لتغيب لبرهة. رمق
ادريس طيفها فما طاب له مجلس، فراح يتلفت يمنة ويسرة، ويفرك أصابعه. رأته أمه فأشفقت
لحاله فقالت:
-
ما بال عروسنا تأخرت، هل هي تخجل؟
قاطعتها أم العروس بنداء بنتها:
- أين أنت يا غيثة؟ الضيوف في انتظارك.
لم يكن أحدٌ منهم من يحترق على نار الانتظار كإدريس. لم يهنأ بجلوسه وذاك الطيف يتراءى في أرجاء
المنزل. قرعُ نعلها والتدلل في مشيتها رسَم في محيى ادريس فرحاً يشبه فرح طفل يوم العيد.
ما إن رأتها عينه حتى صُعق لجمالها. غاب كل ما حفظ من كلام، وحل محله التلعثم. لا
يدري بماذا يبدأ؟ وكيف؟ لم ينبس ببنت شفة إلا حينما قرأ الجمعُ الفاتحة. الله
المستعان. اتفق الأهل بينهم على مقدار الصداق وبعض التفاصيل الأخرى المتعلقة بالعرس.
لما هم بالخروج،
استأذن أهل العروسة في خلوة مع شريكة الدرب ،فأذنوا له، جلس إليها ولسانُ حاله
يقول: "أين كان هذا الجمال مخبأً". سألها:
-
قولي لي يا غيثة، أنت تعلمين أنك الزوجة الرابعة لي بعد
ثلاث فشلن، ألم يكن هذا كاف لرفضي قبل أن آتي قصد خطبتك؟
كانت عيناها منغرستان في عمق الأرض وهي تتصبب عرقاً. أجابته باستحياء:
-
رأيت في أمرك ما لم تره أنثى غيري. أنت ودود، وعطوف، ومصبوغ
برضى أمك ولم أر فيك ما في سواك من المفاسد، فأنت ولله الحمد لست مدمنا ولا عاقا، وهذا يكفيني. أما الحزم والعزم، فهما من شيم الرجال.
إنني لا أخاف على نفسي برفقتك، فإن زغتُ قومتَ اعوجاجي، وإن أحسنت أثنيت علي ورضيت
عني، فما تنال بنت حواء خيرا من هذا. فلمَ يضيرني أن أكون الرابعة ولو كن يزلن على
رقبتك وأكون لهن نعم الضرة؟
بقي متسمراً لبرهة. كان به مس هذه التعويذة التي ألقت
عليه بها بنت عبد الرحمان. كسر صمته بقوله:
-
البساطة سر الجمال الكوني. لم تتركي لي مجالا يا بنت
الحسب والنسب، فوالله لإني أسعد الخلق بأن تكوني زوجة لي. الآن أستأذنك كي أطلب من
أهلك الاستعجال بالعرس .
0 التعليقات: