طبيب العقل العربي الجابري ومعضلة "التراث والحداثة"

أغسطس 05, 2018 Unknown 1 تعليقات








مقال بقلم: عمر دحماني

عندما نقول أن هذا المفكر رائع ولا مثيل له فنحن لا نرمي أحداً بالورود ولا نطلق الكلام على عَوَاهِنِهِ، لكن هي شهادة حق في حق من انتصر للحق. الجابري هو شخص هادئ وغير متهور، شخص أبى أن يسير لا في ركب المتعصبين للمدرسة الكلاسيكية الرافضة لكل شيء منبته غربي، ولا في ركب المتعصبين لثورة على الماضي.

هكذا إذاً كان موقف الجابري وسطيا، ليس بناءً على قولة خير اﻷمور أوسطها، لكن ﻷنه رأى في ذلك الموقف أنه مصيب، فالنظر لما تم تحقيقه من تقدم وتحضر عند غيرنا من الحضارات لا يقتضي بالضرورة استنساخ نفس التجربة على مجتمعاتنا ثم انتظار نفس النتائج. كلا، بل وجب اﻷخذ بالمعطيات التي تحكم والسياق السوسيوتاريخي الذي يسود. هذا لا يعني أن الجابري وقف موقف المعارض للحداثة أبداً، بل أكد أنه واحدٌ ممن ينتصرون لها لكن بعقلانية وتروي كبيرين، إذ يرى أنه لا سبيل للحديث عن الحداثة بعيداً عن التراث فيقول :

"إن الحاجة إلى اﻹشتغال بالتراث تمليها الحاجة إلى تحديث كيفية تعاملنا معه خدمة للحداثة وتأصيلا لها. وهذه وجهة نظر عبرنا عنها منذ بداية اشتغالنا بالتراث مع منتصف السبعينيات."

وبالتالي فالجابري كأنما يقول: يا مثقفينا ويا مفكرينا من فضلكم دعونا اﻵن نؤجل الحديث عن الحداثة وتعالوا نتصالح مع تراثنا ونستنطقه. تعالوا نمحوا عنه غبار ما التصق به من شوائب ونثبت ما هو ثابت ونضرب بصرامة ما هو متطفل فيقول مجدداً :

 "نحن نعتقد أنه ما لم نمارس العقلانية في تراثنا وما لم نفضح أصول الاستبداد ومظاهره في هذا التراث فإننا لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا، حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة العالمية كفاعلين وليس فقط كمنفعلين."

هكذا يكون الجابري واضحاً مع المتلقي وضوح الشمس ويستغرب ويستنكر كيف تسنى لبعض مفكرينا الذين ذهبوا إلى القول بأن الحداثة خلقت قطيعة مع كل ما قبلها فوصل ببعضهم القول بأن عصر النهضة لا فضل له على الحداثة الغربية، فيبدل الجابري جهداً ليؤكد أن الحداثة الغربية جذورها ممتدة لعهد اﻹغريق والرومان، وما وصل له الغرب ما هو إلا دينامية تتحرك فتتقدم تارة وتنكص تارة أخرى، ويحاجج عن قوله هذا بذكر فضل أرسطو وأفلاطون على الغرب بما قدموه في الفلسفة وما قدمه شيشرون في القانون وفيثاغورس وطاليس في الرياضيات...

 ويؤكد الجابري أيضا أن المناخ التاريخي والثقافي العربي يختلف عن غيره، ولهذا يقول إن الصين وصلت لمرحلة من الحداثة ربما تكون تفوقت فيها على الغرب لكنها عندما أرادت أن تقوم بعملية تحديث مجتمعها لم تنسلخ عن ماضيها وتقاطعه، ولم تأتي بالنسخة الغربية لتسقطها على أرضها بشكل مباشر، كلا بل عملت بنفسها وارتكزت على قوامها البشري مستنيرة بما قدمه مفكروها ومتعاملة بشكل برغماتي مع ما قدمته باقي الحضارات آخذةً ما ينفعها ودارئة ما يضرها.

هناك تعليق واحد:

  1. نص جامع و ماتع لا يدع مجالا للبس ...
    في انتظار باقي الاجزاء و شكرا جزيلا استاذ عمر .

    ردحذف