كبيري مولاي أحمد: المربي الفصيح الذي يأبى النسيان





من أين للمرء بيد حنونة تأخذ بجهله وأميته إلى مدار العلم والمعرفة؟

من أين للمرء بمعلم يعلمه حروف القراءة وأرقام الحساب ليتبدد ذلك الصقيع المتجمد فوق صدره؟

من أين للمرء بمربي يضحي بالغالي والنفيس لينبت طلابه على القيم الفاضلة ومكارم الأخلاق؟  

من أين للمرء بمعلم ومربي كحجم مولاي أحمد كبيري؟ من منا لم يتتلمذ على يده؟ من منا لم يغترف يوماً من معارف هذا الكبير ويتلقى العلم عنده؟ قليلون فقط هم أولئك الذين لم يحظوا بهذا الشرف، بينما أجيال الثمانينات والتسعينات وحتى أجيال بداية الألفية الثالثة هي بلا شك تعرفه حق المعرفة، وتعترف بفضل الكبير في مسارها الدراسي.

مولاي أحمد كبيري لم يكن مدرساً فحسب، بل أباً لكل تلاميذه، تلاميذه الذين كان يضعهم في عيونه ويهتم لشؤونهم لكأنهم أبناءه وفلذات كبده. نعم إننا أبناءه ونعتز بذلك. نحن أبناءه الذين نحبه ونوقره ونضعه تاجاً فوق رؤوسنا. فهنيئاً لنا بك أيها المربي الشامخ.

ولد مولاي أحمد كبيري سنة 1963 بقصر الدويرة. بعد حصوله على شهادة الدروس الابتدائية بمدرسة الدويرة سنة 1975 بميزة حسنة، تابع دراسته الاعدادية والثانوية بثانوية النخيل بأرفود، وذلك بعد استفادته من منحة بالداخلية. في عام 1982، حصل على شهادة البكالوريا في شعبه الآداب العصرية، ثم التحق بعد ذلك بمركز تكوين المعلمين بالرشيدية.

بدأ مساره المهني عام 1983 حيث عين كمدرس بمجموعة مدارس بوكافر بإقليم ورزازات. بعد أربعة سنوات، انتقل إلى مجموعة مدارس الزعاري-أرفود حيث قضى بها عاماً واحداً لينتقل في إطار تبادل آلي إلى مسقط رأسه بقرية الدويرة عام 1988 حيث درس ثلاث مستويات مدة 21 عاماً.

في سنة 2009، أسندت لمولاي أحمد كبيري مهام الإدارة التربوية، فاشتغل كمدير لأحد المدارس الابتدائية بإملشيل حيث قضى بها أربعة أعوام، ثم قضى خمس سنوات بالريصاني قبل أن يعود إلى مسقط رأسه هذا العام 2018، وهو الآن مدير المدرسة الإبتدائية بالدويرة.

لم يعرف مولاي أحمد كبيري فقط ككفاءة تربوية تنهل منها الأجيال العلم الذي يضيء الدروب ويوقظ الجهل القابع في نفوس تلاميذه، وإنما عرف أيضاً بفصاحته اللغوية، وبخطابته المتفردة، فما نُظم من لقاء تواصلي أو نشاط تنموي إلا وبزغ هذا الخطيب سيد المشاهد. ما إن يعتلي مولاي أحمد كبيري منبر الكلام إلا وسافر بالأنام إلى عامله الذي تصير فيه الكلمات درراً وجواهر، وتتحول اللغة إلى كلام حلو ينساب إلا الآذان بكل تلقائية وروية، فيدخل الناس في عالم فصيح تتناسق فيه الجمل والكلمات، فيحيي الغابر من اللغة ويعيد ترتيبه في قوالب بلاغية ومجازية تسلب العقل والخاطر.

مولاي أحمد كبيري أيضاً هو رجل الكرة الساحرة، بل يعد من أبرز رجالات البلدة الذين قعدوا للكرة المحلية بالدويرة وأسهم في تشكل الذاكرة الكروية بالبلدة، وتبعاً لذلك كان من بين المكرمين في النسخة الثالثة من دوري الأجيال المنظم من طرف جمعية أجيال الدويرة للتربية والتنمينة.

كما لا ننسى أن نذكر بأن له بصمة بارزة في العمل الجمعوي بالبلدة، فهو الذي أفنى حياته في حجرات التدريس لم يبخل يوماً بدعم جمعيات البلدة ومساندتهم قلباً وقالبا حين الرخاء وفي أحلك الظروف.


قليلٌ كل ما قيل في حقك أيها المربي.

قليل كل ما منارة أجيال البلدة .

 عذراً على تقصيرنا في حقك، لكن اعلم أننا – نحن تلاميذك وأبناء بلدتك – نكن لك خالص الحب والتقدير.




إعداد وتنسيق: رشيد الهاشمي


نوستالجيا الرمال والناقة لـ هشام حاكمي












مختفية أنت يا شمس بلدي كما هو الأمل، لا الدفئ وجدنا ولا الصدر الرحب كان لنا حظا. لكن القسوة والشراسة كانت لنا تربية، وليس ببعيد عنا فكنا نحن والنوق واحد. شريكي أرض وطباع ومصير، أبناء الصحراء والرمال اقتادنا القدر لإطلاق أولى الصرخات بسمائك الجافة، ودفعنا بقلوبنا لفخ الحنين.

لم تمدينا يوما بغير الجمود والسكون، وقاسية أنت كما هو حرك.. كلما سطعت شمسك استنزفت قطيرات الماء من أرضك وجريعات الحنان من صدور معمريك. وأنبتت أرضك النخل ونحن، كلانا نشأ على امتصاص جريعات أمل وتقمص الصبر المطاق والذي فوقه، نشأنا على صخر الصلابة وسوط جلاد الإنتماء وبدل الأنين فرش النخل سعفا أخضرا يحي القادم، وفرشنا نحن أبناؤك ابتسامة رضى ظننته تربية ويؤسفنا أن نخبرك أنه نفاق.. أجل يا أرضنا الصلدة! فالجرح الأول كان من توقيعك، وكابرنا أنفسنا لنقف على ساقين احترقتا على نصب أيام عجاف اشتعلت تحتها نيران شمسك الحارقة.

وبعد أن أسحب النصل المائة بعد المليون الذي يخترق ظهري أسألك ما بال ساكنتك بهذه القسوة والجحود؟ ولما كنا ننتظر الحب وورودا تقذف بوجوهنا ها هم يمخرون ظهرنا بالمدية المصقولة بسم الحقد والدونية الواحدة تلو الأخرى.. ولو اخترنا لكنا أزهار نرجس أو ياسمين، أو ربما لكنا برتقال. لكن يد القدر أخمدتنا نخيلا على رمالك التائهة.

وبعد حين استفقنا للم أطرافنا التي غدت شتاتا على أرض الله، هل تعلمين يا صحراء أن النخل على مقربة من الشاطئ استنزفه الشوق، والنوق بعد سنوات هجرها ضاقت ذرعا ببعدها عنك. فكت معاقلها وغير مبالية بالأكل الرطب الحنون، جعلت قلبها بوصلة وولت وجهها شطرك يا صاحبة الرمال الزاحفة..

والخيمة يا حبيبتنا القاسية ها هي ذات الخيمة، والوادي لا يزال جافا، وتيمة الحب لا تزال مفقودة من قواميس رعيتك. لكنك الوطن!! ولربما كانت القسوة أسلوب تعبير عن حبك أ يا أما تطردنا ونعود. فسنوات البعد علمتنا أنك تخفين الضعف بالقسوة، وعلى طبيعتك اكتسى أهلك حلل الطباع، فلا أضعف ولا أحن من رمالك. ولا أطيب من النخل تمززت جذورها الثرى بحثا عن شربة بعيدة لكن فيئها غطى ورطابها حلا ثغر كل من جاء سائح. ولا أرهف من الناقة دقت أوتادها على رمالك حوارا تملأ رمالك حياة، وغدا ستصير نوقا هي أيضا لكن ملؤها طيبة مغشاة بقسوة تداري الضعف، لكنها لن تخونك فالحنين لليالي الدفئ الذي يقذفه الإنتماء بقلوبها دائم ليوم ليس له تاريخ..

مولاي عبد الرحمان حبيض: زعيم المقاومة الذي يأبى النسيان










لا نجد شيئا نستهل به كلامنا عن مولاي عبد الرحمان حبيض إلا قول الشاعر مهيار الديلمي:

يفنى بنو الدنيا وأنت معها           باق على مر الزمان خالد
تبقى عليك والذي نأخذه            من الجزاء مضمحل بائد
محامد يحسدك الناس لها               والناس إما حامد أو حاسد


         ولد مولاي عبد الرحمان حبيض عام 1932ميلادية بقصر الدويرة، ولما كان المستعمر الفرنسي قد فرض حمايته على المغرب منذ 1912، انخرط الراحل مبكراً في صفوف المقاومة المسلحة بدائرة أرفود، ولم ينخرط فقط كمقاوم بسيط وإنما كقيادي بارز أسهم، بلا شك وفي غير ارتياب، في تحرير وطننا الحبيب، ولأنه كان كذلك لم يتواني المستعمر في اعتقاله وسجنه وتعذيبه. 


بعد استقلال المغرب عام 1956، أسهم الراحل في تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عام 1959، وكان هو المسؤول الأول عن الحزب بقصر السوق (الرشيدية حاليا) وبقي كذلك إلى حدود عام 1977. ويحكى أن مولاي عبد الرحمان حبيض طالما عرف باستماتته في الدفاع عن مبادئ الديموقراطية والمساواة بين مختلف شرائح الشعب المغربي، لذلك تم تعيينه عضواً في اللجنة المركزية للإتحاد الوطني والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.

في عام 1972، شكل الراحل أحد أبرز المؤسسين لشركة "زيز" لتوزيع المحروقات، ومثلها في وحدة فاس وخريبكة ثم أخيراً بمدينة الفقيه بن صالح (1974) حيث استقر به المقام وأمضى بها ما بقي له من حياة، وله خمسة أولاد ذكور هم طارق، ومولاي الحسن، ومولاي سليمان، وخالد، وشوكري ومولاي علي، وثلاث بنات: للا مليكة، للا خولة، وللا أم كلثوم.

وتوفي الراحل يوم الثلاثاء 9 يناير 2018 بمدينة الفقيه بن صالح بعد صراعه مع مرض عضال لم ينفع معه طبيب ولا دواء، وقد وري الثرى بمسقط رأسه بقصر الدويرة.



وبمناسبة الأربعينية لوفاة الفقيد، نظمت المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، يوم 16 فبراير 2018 بالفقيه بن صالح حفل تأبين حضرته أسرة الراحل وعدد من الشخصيات البارزة، وأكد من خلاله المدوب السامي أن مولاي عبد الرحمان حبيض كان رمزاً ولا يزال للنضال والكفاح من أجل الحرية والاستقلال.




 وفي الختام، نسأل الله عز وجل أن يتغمده برحمته الواسعة ويسكنه فسيح جنانه وجزيه خير جزاء لما قدمه من تضحيات جسام في سبيل تحرير بلاده من المستعمر الغاشم، وفي سبيل إحقاق الحق والعدالة الاجتماعية في وطنه. 






تنسيق وإعداد: رشيد الهاشمي



سيدي عبد الرحمان ميموني: الرجل المربي الذي يأبى النسيان








قليلون فقط هم من يحوزون شيئاً صادقاً في هذه الحياة العابرة.

قليلون فقط هم من يستحقون أن نقف لهم وقفة إجلال وإكبار لما قدموه من تضحيات جسام.

قليلون فقط من يظلون راسخين في الذاكرة الجماعية لقصر الدويرة، ويأبون الرحيل. يأبون النسيان.

من صادف سيدي عبد الرحماني ميموني اليوم وهو الذي تجاوز الستين ببضع سنين، لا يخال أنه هو نفسه الشخص المعطاء الذي لازال اسمه وصورته عالقين في أذهان الكثيرين ممن اغترفوا من معارفه وتلقوا الدروس على يده، أو ممن صادفوه وشهدوا له بالجدية والتفاني في العمل.

اثنى عشر عاماً (1990-2002) التي قضاها في تدريس أبناء قصر الدويرة بمجموعة مدارس للا أمينة كانت كافية ليشهد له الكل بأنه شكل بحق مناراة كبرى أنارت عقول أجيال برمتها، وتخرج على يده أجيال من الرجال، أجيال لازالت إلى اليوم تعترف بتفانيه وجديته.

ولد سيدي عبد الرحمان ميموني بقصر الدويرة عام 1955 (وهذا التاريخ غير مضبوط لأنه لم يسجل في الحالة المدنية حتى سنة 1969). تلقى أربع سنوات من تعليمه الإبتدائي بمدرسة قصر الدويرة، وسنتين (الصف الخامس والسادس) بمدرسة الزاوية القديمة حيث حصل على شهادته الإبتدائية عام 1970.

حصل بعد ذلك على شهادة السلك الاعدادي بإعدادية النخيل بأرفود، وشهادة البكالوريا تخصص علوم تجريبية بثانوية اغريس (كلمية) عام 1981، ثم التحق بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس حين نال شهادة الإجازة في علوم الجيولوجيا عام 1986.

بعد حصوله على دبلوم تكوين المعلمين شهر يوليوز 1987، تعين كمعلم بمجموعة مدارس بوكافر، وكانت تسمى وقتها بمجموعة مدارس افزو بألنيف. عام 1989، انتقل للعمل بمجموعة مدارس للا أمينة بالدويرة: عمل سنة واحدة بقصر الزاوية القديمة، ثم درس اثني عشر عاماً بقصر الدويرة مسقط رأسه.

وفي عام 2002، عين كمدير في السلك الابتدائي بمجموعة مدارس سيدي مجبر بفزنا (الجرف)، وفي عام 2009، انتقل إلى مجموعة مدارس الإمام مسلم بجماعة الخنك-الرشيدية، وبقي هناك إلى أن أحيل على التقاعد في غشت 2016، وهو الآن مستقر مع أسرته في مدينة الرشيدية.


 ومعلوم أن سيدي عبد الرحمان ميموني كان شديد الحرص على تعليم تلاميذه على أفضل نحو، وكانت الناس ولازالت تشهد له بالطيبوبة وحبه للعمل، فهو بذلك استحق بدون منازع لقب الأستاذ والمربي الكفؤ والمعطاء.

ومن بين الشهادات التي سجلناها بخصوص هذا المربي الكبير شهادة يونس دحماني (طالب باحث يعد دكتوراه في علم الكيمياء) الذي قال: " يبقى سي عبد الرحمان ميموني من بين الأساتذة الذين علمونا معنى التضحية، معنى الإنتماء ومعنى الحب."

وقال عبد الحق الديوري الذي يشتغل الآن شرطيا: "كنت تلميذا لذلك الرجل الشهم في يوم من الأيام. أكاد أجزم أن لا أحد ممن يعرفونه يجادل في كفاءته وضميره الحي وغيرته الحارقة على مستقبل أبناء بلدته."

قليل هذا المقال في حق هذا الرجل المعطاء الذي فرض نفسه كنموذج استثنائي في الجدية والتفاني في العمل، لكن ما نرجوه بحق هو أن نوقظ جبلة العرفان في حق هذا الرجل الذي وجب على الأجيال القادمة أن تتخذه قدوة لها.




                                
      تنسيق وإعداد: رشيد الهاشمي

البيت القديم






تكأكأ أهل الحي حول الماكنة الكبيرة كما يتكأكأ الفقراء يوم الجمعة على قصعات الكسكس أمام مساجد الرحمان. كانت أمارات السعادة بادية على وجوههم وهم يتلمسون أسنانها الحادة لكأن بهم شوق شديد لافتراس حيطان البيت القديم. حتى الأطفال منهم من ترك مدرسته وتجمهر على المكان لكي لا يُفوت على نفسه حضور الحدث. السقوط حدث نادر ولا ينبغي للمرء تضييع الفرصة.

بدى على محيى الحاج التهامي الكثير من الفرح لأنه استطاع إقناع إخوته الأربعة بهدم البيتِ واقتسام الأرض فيما بينهم. أختهم الوحيدة فطومة هي التي عارضت على الأمر لارتباطها بهذا البيت، ذلك أنها أمضت كل طفولتها تلاحق الفراشات في بستانه، وتلاعب دمى القصب بين أشجار الصنوبر المنتصبة أمام بابه. قالت لإخوتها ذات يوم وهي تبين لهم قيمة البيت:

-   إياكم وأن تفكروا في هدمه. أقبل بكل شيء إلا أمراً كهذا. كيف لنا أن نفرط في إرث أبينا العظيم. كيف أن نقدِم على جرم كهذا ونحن نرتبط بأشيائه الصغيرة. بأعواد الكاليتوس النائمة في الأسقف، بسلالمه التي أمضينا طفولتنا في تسلقها.

لكن الحاج التهامي أقسم أن يقدِم على هذا الأمر ولو كان على حساب حياته، عندما سمع رأيها، هز كتفيه وقال:

-   والله إنه لآخر الزمن، إذ أصبحت النساء ترينا شغلنا.

اليوم، لم يعتبر الحاج الأمر حدثاً عابراً، بل اعتبر اليوم عيداً، إذ اختار للمناسبة جلابيته البيضاء التي اشترى ثوبها من سوق مكة، وبرنسه البني الذي لا يلبسه إلا في المناسبات الخاصة.

حضر الحدث أيضا إلى جانب الإخوة الأربعة بعض الأفراد من العائلة الموسعة. كان الحاج التهاني يتلقى التهاني من الأصهار والجيران والمارين بصدر رحب. قال الجار حمان مهنئاً:

-   إنه ليوم مميز حقاً. في الحي كله لم تعد بيوت طينية إلا بيت المرحوم. لا أخفيكم سراً، البيت كان يشوه الحي بحيطانه الخربة وطلاء الجدران الذي صار باهتا، أما الآن وقد قررتهم هدمه فإن حينا سيصير نموذجيا. حي بمواصفات أوروبية.. ههه. تهانينا الحارة.

أشعل المقدم سيجارة من أخرى وتقدم نحوَ الجمع ورائحة البيرة الكريهة تفوح من فمه. تأمل البيت في نظرة ساخرة وقال بنوع من الازدراء:

-   حسناً ما فعلتم يا أبناء العربي. لو لم تقرروا هدمه لكنت أنا فعلت ذلك. البيت شاخ وهرم وصار يشكل خطرا على الساكنة. ما أقلقني أكثر هو أني سمعتُ مؤخرا من بعض الناس يقولون بأنه مسكون من طرف عفريت من الجن.  

طلب الحاج التهامي من سائق الماكنة اقتلاع شجر الصنوبر أولاً. يقول إن له ذكريات بئيسة معها ويريد أن يستأصل الجرح من جذره. غرست الماكنة أسنانها في الأشجار كما يغرس ذئب أنيابه في جسد غزالة، أما المتحلقون فكانوا يصفقون بحرارة كلما سقطت شجرة أو طار غصن في الهواء، أما كبيرهم فكان لا يحس بالانتشاء إلا حينما يرى جذور الأشجار تتطاير في السماء أشلاء وقد قوضت من أساسها.

لم تمض إلا دقائق معدودة حتى ماتت أشجار الصنوبر كلها. تحولت في لحظة ما إلى مجرد حطبٍ لا معنى له. تنحت الماكنة لتلتقط أنفاسها قليلاً، وتترك للناس المجال لجمع الأغصان والأعواد. كانوا يتسابقون نحو الأشلاء وتكديسها على جنابات الطريق، والحاج التهامي ما فتئ يذكرهم بالآية القرآنية التي تقول: "وتعانوا على البر والتقوى."

بعد قليل، صار المكان نظيفا وسانحاً لافتراس الجدران. تقدمت الماكنة من جديد لاستكمال الجريمة، وما إن غرست أحد أنيابها في الحائط الهرم حتى ظهر ابن فطومة ومعه بعض عناصر الشرطة الذين كانوا يحملون معهم قرار منع الهدم. حالما رأى المقدم ذلك الحشد حتى غطى وجهه بوشاحه الشتوي واختفى وسط البنايات، لكي لا ينكشف وجوده.

لما عادت الماكنة إلى الوراء كما أمر الناطق باسم الوفد، تقدم الحاج التهامي من الجمع ليستفسر عن سبب المنع وقد اشتعل غضباً:

-       لم تعد حرية في هذه البلاد أم ماذا؟ أتمنعون المرء حتى من حق بناء سكن محترم أم تريدون أن ننتظر حتى تسقط هذه الجدران على رؤوسنا؟ بلاد الزفت والعفن...

لم تنبس عناصر الشرطة ببنت شفة. ظلوا صامتين لكأنهم لم يسمعوا شيئاً، لكن ابن فطومة، الذي استفزه كلام خاله، تقدم وقد سال من عينيه دمع سخي حزنا على أشجار الصنوبر التي تحولت إلى ركام. قال بهدوء وحزن كبيرين:

-       حرام عليك يا خالي هذا الذي تفعلونه. بالله عليك، قل لي كيف سمحت لكم أنفسكم بأن تفرطوا في دارٍ تكبركم بقرون؟ الدار نفسها التي لازالت مثقلة بأنفاس أجدادنا، بحكاياتهم الجميلة، بذكرياتهم التي تريدون الآن إقبارها لكأنها لا تعنيكم في شيء. عموماً، أنتم الآن، وبهذه الورقة التي أحملها بين يدي، ليس لديكم حق هدم الدار لأن أمي التي تملك نصيبها لم توقع على القرار.

-       هاه قل إن فطومة وراء الحكاية إذن. اسمع يا فتى، قل لأمك أننا سنهدم البيت شاءت أم أبت، أما بخصوص كلام الجُرْنَال هذا التي تتفوه به فإنه لا يدخل إلى رأسي. عَقِّل أمك يا فتى، قل لها إن الوقت قد تغيرت ولا أحد لديه الوقت ليسمع هذا الكلام الذي تتفوه به الآن بكل وقاحة.

-      عموماً الهدم ليس هو الحل يا خالي. نرمم البيت، نعم نرممه. ندعم حيطانه بجدران جانبية، ونبني سقفاً إسمنتيا يحمي السقف الأول. نزين الباب الكبير بأقواس أندلسية تسلب العقل، و.... 

ما إن كاد ابن فطومة ينهي جملته الأخيرة حتى كان الحاج التهامي قد ولى وجهه شطر البيت القديم، وهو عازم كل العزم على مواصلة فعلته النكراء.

                                           
                                                                                          رشيد الهاشمي


ثرثرة فوق السطوح








على سطح منزلهما كانا جالسين، وكانت شمس الصباح التي بانت لتوها تحييهما بأشعة ذهبية محملة بدفء خريفي قل نظيره. كان الجو هادئاً، ولم تكن هنالك رياح تعبثُ بأغراضهما المتناثرة فوق السطوح. سحبت نفساً عميقاً وقالت لزوجها كما لو أنها تذكر شيئاً للتو:

- ما الذي جذبك إلي حتى تأتي أهلي طالباً القرب؟

أجابها بابتسامة ولم ينبس ببنت شفة.

همهمت:

- هل تتملص عن الإجابة؟ أتخجل حتى وأنت في خريف العمر؟ هيا تشجع. أغمض عينيك وبُح بخلجات فؤادك. هيا إني متشوقة لمعرفة هذا السر الدفين الذي ما مرة أردت سؤالك عنه .

قال لها والسرور يعلو محياه:

- لم يكن في القرية بنتٌ تناسب الزواج سواك.

جال في خاطره: "سأتلاعب بأعصابها قليلا قبل البوح"

تابع كلامه بعد شيء من الصمت:

- بكل صراحة خفت أن يزيد عدد العوانس في بلدتي، وقلت في قرارات نفسي: سأنقذ بنتَ فلان عسى أن يكون لي أجر في ذلك. وهذا ما حصل أيتها العجوز .

نهرته وقالت:

-  أنظر إذن من يصب عليك الماء لتغسل درنك، فالعجوز لاتقدر على خدمتك. لقد كنتُ في بيت والدي أميرةً حتى أتيتني كالقضاء المستعجل. سرقْتني من بيت أبي في عز طفولتي. كان وقتها عمري لا يتجاوز السادسة عشرة، وأنت الآن تتحدث عن العنوسة. لك أن تقول ما قلت لأنني تواضعت، وقبلتك زوجا أيها العجوز الخرف. أتنكر أنك  تكبرني بعشر سنين، قل هيا أجب؟

-  نعم مولاتي لك الحق في ما قلته، ولهذا اخترتك زوجة. من كبرياء وأنافة بيت أهلك اتخذت عنوانا، أما الجمال فلم ترى عيني ولن ترى مثل جمالك قط. حقاً، لقد سرقتك من بيت أهلك ثريا لتضيء لي حياتي. يوم قرعتُ باب أهلك طالباً القرب، خفتُ أن يحول فارق السن بيني وبينك، فأصير أتعس الخلائق .

ردت عليه:

-       أتستهزئ بي بنبرة تخفي خلفها فرحاً وسرور.

أجابها:

- ما عاد الله، ما قلتهُ نابعٌ من قلبي الذي سكنته منذ رأتك عيني .ألازلت تتذكرين عندما كنت تملئين الجرة عند العين، وأنا أحملق فيك دون أن آبه بما يجول حولي حتى سقطت في الترعة. أجابته وقد احمرت وجنتاها حتى صارتا مثل شقائق النعمان:

  - وهل أيام الصبى تُنسى؟ أستغفر الله. اسمح لي غلظتي هاته يا تاج رأسي وقرة عيني، فأنت تعلم أني هوجاء لا تحركني إلا عواطفي.

رد عليها:

  -  بل أنا من يجب عليه الإعتذار. هاتي رأسك أقبلها.

 -  ما عاد الله.

    ترد عليه وتنحني على رأسه لتقبله .تلتقط الإناء بعد حين بيدها لتصب على زوجها الماء ليغسل شعر رأسه. قال لها:

-   إني أشهد الله إنى أرضى عليك دنيا وآخرة .



           عثمان الماحي في: 26\10\2016