البيت القديم
تكأكأ أهل الحي حول الماكنة
الكبيرة كما يتكأكأ الفقراء يوم الجمعة على قصعات الكسكس أمام مساجد الرحمان. كانت
أمارات السعادة بادية على وجوههم وهم يتلمسون أسنانها الحادة لكأن بهم شوق شديد لافتراس
حيطان البيت القديم. حتى الأطفال منهم من ترك مدرسته وتجمهر على المكان لكي لا يُفوت
على نفسه حضور الحدث. السقوط حدث نادر ولا ينبغي للمرء تضييع الفرصة.
بدى على محيى الحاج التهامي
الكثير من الفرح لأنه استطاع إقناع إخوته الأربعة بهدم البيتِ واقتسام الأرض فيما بينهم.
أختهم الوحيدة فطومة هي التي عارضت على الأمر لارتباطها بهذا البيت، ذلك أنها أمضت كل
طفولتها تلاحق الفراشات في بستانه، وتلاعب دمى القصب بين أشجار الصنوبر المنتصبة أمام
بابه. قالت لإخوتها ذات يوم وهي تبين لهم قيمة البيت:
- إياكم وأن تفكروا
في هدمه. أقبل بكل شيء إلا أمراً كهذا. كيف لنا أن نفرط في إرث أبينا العظيم. كيف أن
نقدِم على جرم كهذا ونحن نرتبط بأشيائه الصغيرة. بأعواد الكاليتوس النائمة في الأسقف،
بسلالمه التي أمضينا طفولتنا في تسلقها.
لكن الحاج التهامي أقسم
أن يقدِم على هذا الأمر ولو كان على حساب حياته، عندما سمع رأيها، هز كتفيه وقال:
- والله إنه لآخر
الزمن، إذ أصبحت النساء ترينا شغلنا.
اليوم، لم يعتبر الحاج
الأمر حدثاً عابراً، بل اعتبر اليوم عيداً، إذ اختار للمناسبة جلابيته البيضاء التي
اشترى ثوبها من سوق مكة، وبرنسه البني الذي لا يلبسه إلا في المناسبات الخاصة.
حضر الحدث أيضا إلى جانب
الإخوة الأربعة بعض الأفراد من العائلة الموسعة. كان الحاج التهاني يتلقى التهاني من
الأصهار والجيران والمارين بصدر رحب. قال الجار حمان مهنئاً:
- إنه ليوم مميز
حقاً. في الحي كله لم تعد بيوت طينية إلا بيت المرحوم. لا أخفيكم سراً، البيت كان يشوه
الحي بحيطانه الخربة وطلاء الجدران الذي صار باهتا، أما الآن وقد قررتهم هدمه فإن حينا
سيصير نموذجيا. حي بمواصفات أوروبية.. ههه. تهانينا الحارة.
أشعل المقدم سيجارة من
أخرى وتقدم نحوَ الجمع ورائحة البيرة الكريهة تفوح من فمه. تأمل البيت في نظرة ساخرة
وقال بنوع من الازدراء:
- حسناً ما فعلتم
يا أبناء العربي. لو لم تقرروا هدمه لكنت أنا فعلت ذلك. البيت شاخ وهرم وصار يشكل خطرا
على الساكنة. ما أقلقني أكثر هو أني سمعتُ مؤخرا من بعض الناس يقولون بأنه مسكون من
طرف عفريت من الجن.
طلب الحاج التهامي من سائق
الماكنة اقتلاع شجر الصنوبر أولاً. يقول إن له ذكريات بئيسة معها ويريد أن يستأصل الجرح من جذره. غرست الماكنة أسنانها في الأشجار كما يغرس ذئب أنيابه في جسد غزالة، أما المتحلقون
فكانوا يصفقون بحرارة كلما سقطت شجرة أو طار غصن في الهواء، أما كبيرهم فكان لا يحس
بالانتشاء إلا حينما يرى جذور الأشجار تتطاير في السماء أشلاء وقد قوضت من أساسها.
لم تمض إلا دقائق معدودة
حتى ماتت أشجار الصنوبر كلها. تحولت في لحظة ما إلى مجرد حطبٍ لا معنى له. تنحت الماكنة
لتلتقط أنفاسها قليلاً، وتترك للناس المجال لجمع الأغصان والأعواد. كانوا يتسابقون
نحو الأشلاء وتكديسها على جنابات الطريق، والحاج التهامي ما فتئ يذكرهم بالآية القرآنية
التي تقول: "وتعانوا على البر والتقوى."
بعد قليل، صار المكان نظيفا
وسانحاً لافتراس الجدران. تقدمت الماكنة من جديد لاستكمال الجريمة، وما إن غرست أحد
أنيابها في الحائط الهرم حتى ظهر ابن فطومة ومعه بعض عناصر الشرطة الذين كانوا يحملون
معهم قرار منع الهدم. حالما رأى المقدم ذلك الحشد حتى غطى وجهه بوشاحه الشتوي واختفى
وسط البنايات، لكي لا ينكشف وجوده.
لما عادت الماكنة إلى
الوراء كما أمر الناطق باسم الوفد، تقدم الحاج التهامي من الجمع ليستفسر عن سبب المنع
وقد اشتعل غضباً:
-
لم تعد حرية في هذه البلاد أم ماذا؟ أتمنعون
المرء حتى من حق بناء سكن محترم أم تريدون أن ننتظر حتى تسقط هذه الجدران على
رؤوسنا؟ بلاد الزفت والعفن...
لم تنبس عناصر الشرطة
ببنت شفة. ظلوا صامتين لكأنهم لم يسمعوا شيئاً، لكن ابن فطومة، الذي استفزه كلام
خاله، تقدم وقد سال من عينيه دمع سخي حزنا على أشجار الصنوبر التي تحولت إلى ركام.
قال بهدوء وحزن كبيرين:
-
حرام عليك يا خالي هذا الذي تفعلونه. بالله
عليك، قل لي كيف سمحت لكم أنفسكم بأن تفرطوا في دارٍ تكبركم بقرون؟ الدار نفسها
التي لازالت مثقلة بأنفاس أجدادنا، بحكاياتهم الجميلة، بذكرياتهم التي تريدون الآن
إقبارها لكأنها لا تعنيكم في شيء. عموماً، أنتم الآن، وبهذه الورقة التي أحملها
بين يدي، ليس لديكم حق هدم الدار لأن أمي التي تملك نصيبها لم توقع على القرار.
-
هاه قل إن فطومة وراء الحكاية إذن. اسمع يا فتى،
قل لأمك أننا سنهدم البيت شاءت أم أبت، أما بخصوص كلام الجُرْنَال هذا التي تتفوه
به فإنه لا يدخل إلى رأسي. عَقِّل أمك يا فتى، قل لها إن الوقت قد تغيرت ولا أحد لديه
الوقت ليسمع هذا الكلام الذي تتفوه به الآن بكل وقاحة.
-
عموماً الهدم
ليس هو الحل يا خالي. نرمم البيت، نعم نرممه. ندعم حيطانه بجدران جانبية، ونبني
سقفاً إسمنتيا يحمي السقف الأول. نزين الباب الكبير بأقواس أندلسية تسلب العقل،
و....
ما إن كاد ابن
فطومة ينهي جملته الأخيرة حتى كان الحاج التهامي قد ولى وجهه شطر البيت القديم،
وهو عازم كل العزم على مواصلة فعلته النكراء.
رشيد الهاشمي
0 التعليقات: